نازحون من جحيم إلى آخر
10 نوفمبر- تشرين الثاني 2022
تعيش محافظة أبين أوضاعًا إنسانيّة غاية في السوء مع انتشار السلاح والمسلّحين، إضافة إلى الجماعات المسلحة المتطرّفة، في ظلّ غياب دور السلطة المحلية وظواهر الانفلات الأمنيّ، كانتشار إطلاق النار، ومِن ثَمّ ضحايا الرصاص الحي الراجع منه والمباشر. وتكرّر دهس المركبات العسكرية للمدنيين.
محمد شوقي (13 سنة)، أحد ضحايا الرصاص الحي في مدينة زنجبار. أسرة محمد من الأُسَر النازحة إلى أبين من قرية تبيشعة بجبل صبر، بالقرب من مدينة تعز، والتي نزح منها في العام 2017 نتيجة تهدُّم جزءٍ كبير من منزلهم بسبب قذائف الهاون التي أطلقتها جماعة أنصار الله المسلحة (الحوثيين). كان عدد الأسرة النازحة سبعة أفراد، منهم الأب والأم وخمسة من الأبناء؛ أربعة منهم ذكور، وفتاة واحدة، أكبرهم أحمد (15 سنة)، وأصغرهم ربيع بعمر سنة ونصف، وُلِد في النزوح. أمّا محمد فكان الثاني وهو بعمر 13 سنة، وهو الضحية.
يقول والد محمد، شوقي (44 سنة- مُبَلِّط): “نَزَحَتُ من منزلي في محافظة تعز نتيجة الحرب، وكنّا هناك نعيش في خوف ورعب. نزحت إلى محافظة أبين من أجل أن تكون أسرتي في أمن وأمان. نَزحتُ وأنا أحلم بالاستقرار مع أولادي”.
يضيف: “استقريت في حي العمارات بمنطقة زنجبار، وبحثتُ عن عمل. ذهبتُ بأطفالي إلى المدرسة، وبعد فترة لم أستطع دفع احتياجات المدرسة وإيجار المنزل ومصاريف المعيشة والكهرباء والماء، تأزمّت الأمور المالية بسبب ارتفاع الأسعار”.
ترك أحمد المدرسة في صفه السابع، وغادرها محمد في صفه الخامس، وتوجّها إلى العمل؛ أحمد مع والده، ومحمد للعمل في محل مفروشات بسوق زنجبار، بمبلغ 1500 ريال يوميًّا (أقل من دولار). هكذا بدأت الأمور تستقرّ نوعًا ما، لكن الوضع الأمني المختل لم يمكّنهم من رؤية أيّ نوعٍ من الحياة.
في أغلب الأوقات -كما يقول ربّ الأسرة- تُسمَع أصوات إطلاق النار، إلى درجة أصبحت فيها المدينة جحيمًا أكثر من المدينة التي نزح منها (تعز). مع ذلك، كان محمد مستمرًّا في عمله في محل المفروشات، ولأنه الطفل الوحيد في المحل، يقوم العمّال هناك بإعطائه مبلغًا ماليًّا من أجل إحضار الطعام لهم من المطعم المجاور.
في يوم الإثنين، 8 أغسطس/ آب 2022، خرج محمد من المنزل متوجِّهًا إلى العمل، وعند الساعة 07:00 مساءً، توجه لإحضار وجبة العشاء لزملائه. بينما كان داخل المطعم، ويتحدّث مع النادل ليأخذ طلبه، أصابت محمد رصاصة في ساقه اليمنى، ومِن ثَمّ نفذت واصطدمت بالجدار، وتناثرت شظاياها على ساقه اليسرى ومشط ساقه اليمنى.
انطلقت الرصاصة من سلاح أحد أفراد الحزام الأمني في مديرية زنجبار، وكان هذا الجندي قد تشاجر مع أحد زملائه داخل المطعم، فأطلق رصاصتين تحت أقدام الزبائن لتهديده، وأصابت إحداهن الطفل محمد، بينما طاشت الأخرى ولم تصب أحدًا.
أحدَثَ هذا الأمرُ رعبًا وتدافُعًا للزبائن في المطعم خوفًا من تطور الشِّجار إلى اشتباك. سقط محمد على الأرض ودماؤه تملأ المكان. كان خائفًا ومرعوبًا، وتمّ إسعافه إلى مستشفى زنجبار (يبعد مسافة كيلو عن المطعم)، ولكن لم يجدوا له العلاج المناسب، فتمّ نقله إلى مستشفى الرازي العام، وعمل الإسعافات الأولية له.
تم تحويل الطفل المصاب بعد ذلك إلى مستشفى أطباء بلا حدود في عدن، ومِن ثَمّ مستشفى الجمهورية هناك، ولم يجدوا اختصاصيًّا لينظر في حالته، فتمّ نقله إلى مستشفى عدن الألماني، وأجريت له عملية استخراج للشظايا، وتكبّدت الأسرة أموالًا كبيرة، بالرغم من أنّ مالك محل المفروشات تكفّل بجزء من تكاليف العلاج.
لا يزال الطفل، حتى كتابة هذه المدوّنة، يعاني بعد العملية الجراحية من تورُّم في ساقه، ولا يستطيع المشي إلّا على عكاز، أو يظل معظم وقته طريحَ الفراش، عالة على أسرة هربت من الحرب لتقع في أسرها مرة أخرى.
وفي سياق آخر، أصبح الدهس ظاهرة متكرِّرة في أبين منذ العام 2015، بسبب انتشار المركبات العسكرية في المحافظة وعدم مراعاتها خطورة الطرقات، ووجود أناس يقضون مصالحهم في الأسواق والشوارع الضيّقة. قوات الحزام الأمني التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي التي صارت تسيطر على المحافظة، أصبحت محلَّ اتّهام في الكثير من الوقائع.
نزحت عائلة الطفل صابر (14 سنة)، من قرية محل الشيخ، مديرية زبيد بمحافظة الحُديدة، في عام 2016، هربًا من الحرب التي طالت منطقتهم. يبلغ عدد أفراد أسرة الطفل 12 فردًا؛ والدته ووالده وخمسة من إخوته الذكور، وأربع إناث. استقرّت الأسرة بعد نزوحها في مخيم الطميسي، أحد مخيمات مديرية زنجبار.
تفرّق أفراد الأسرة بسبب كثرتهم في المخيم، ثم انتقلوا بعد ستة أشهر إلى منزلٍ بسيط آخر بحي المحراق الكبير، بمنطقة جعار، مديرية خنفر، كي يتم لَمّ شملهم، لكنّها رحلة أخرى من الشقاء لدفع إيجار منزل والبحث الدائم عن الطعام. اضطرّت الأسرة إلى إيقاف تعليم أبنائها، وطلبت منهم التوجُّه للعمل مع والدهم في جمع الخردة من الشوارع.
ترك صابر المدرسة مثل بقية إخوته، وكان حينها في الصف الرابع، وتوجَّه للعمل. يقول والده علي ناصر (42 سنة):
“نعيش في وضعٍ إنسانيّ صعب منذ أن تركنا محافظتنا الحُديدة نتيجة الحرب، وها نحن حاليًّا في وضع أسوأ من الحرب، أولادي يعملون حاليًّا في مهنٍ عدّة؛ منهم من يجمع الخردة، أو يجمعون قوارير الماء الفارغة، وأعمال متنوعة بالأجر اليومي، من أجل أن نعيش”.
في صباح الإثنين، 6 يونيو/ حزيران 2022، خرج والد الطفل صابر إلى عمله، كعادته، وترك خلفه أولاده في المنزل، وعند الساعة 11:30 قبل الظهيرة، اتصل به أحد الأشخاص وأخبره أنّ ولده أصيب بحادث، وهو حاليًّا في هيئة مستشفى الرازي العام بأبين. ترك كل شيء وتوجَّهَ لرؤية ولده، وعند وصوله إلى المستشفى وجدَ ابنَه في قسم الطوارئ مُضرّجًا بدمائه. يقول:
“دمعت عينيّ ولم أستطع التحدث. كان قلبي يتقطع عليه. وعندما تم الكشف عليه اتضح أنّ هناك كدمات في الظهر والحوض وجرحًا كبيرًا في مقدمة الرأس وينزف، وخدوش في كل أنحاء جسده”.
ولخطورة حالته، تم نقله إلى مستشفى الجمهورية في مدينة عدن، بواسطة سيارة إسعاف، برفقة جنديَّين من الحزام الأمني والمتهمين بدهسه، ودُفع لنا مبلغ 15 ألف ريال فقط للعلاج، ثم تركَنا الجنديّان في المستشفى بدون أي مصاريف أخرى، وغادروا”.
وكان الطفل صابر، قد تعرّض للدهس من قبل عربة عسكرية بيضاء اللون تابعة للحزام الأمني، بينما كان يقود دراجة نارية، في منطقة الخط الدائري. يحيى عبدالله (30 سنة- شاهد عيان)، يقول:
“كان على العربة العسكرية ستة جنود، اثنان منهم في الأمام وأربعة في الخلف، وجميعهم يرتدون ملابس عسكرية وعليهم أسلحة، ويتبعون الحزام الأمني”.
ويضيف: “كانت العربة تنطلق بسرعةٍ كبيرة، ولم يشاهدوا الطريق لأنّهم كانوا يتحدثون إلى بعضهم، فقاموا بدهس الطفل النازح (صابر)، ورغم ظروف الأسرة فإنه لم يتم التكفُّل بمصاريف علاجه”.
بعد علاجه في مستشفى الجمهورية، أعاد الأب ابنه إلى المنزل، رغم أنه لا يزال بحاجة إلى عناية طبيّة، إلى جانب الصدمة النفسية التي سبَّبها له الحادث، إذ أصبح منعزلًا وخائفًا، في ظلّ أوضاع الأسرة التي لا حول لها ولا قوّة.