استهتار متواتر بحياة المدنيين في الجوف
11 يناير/كانون الثاني 2022
يتعرض المدنيون في محافظة الجوف (شمال شرق اليمن)، لهجمات جوية يشنها التحالف بقيادة السعودية والإمارات، تكثفت عقب سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، منذ مارس/ آذار 2020 على مساحات جغرافية شاسعة في المحافظة المتاخمة للأراضي السعودية.
الخميس، السادس من أغسطس/ آب 2020، عند قرابة الساعة الـ9:30 صباحًا، قام التحالف بقيادة السعودية والإمارات بتنفيذ هجمة جوية مـن ست قنابل على سيارات مدنية في الطريق الرابط بين مديرية خب والشعف ومديريتي برط العنان ورجوزة التابعة لمحافظة الجوف.
سقطت الثلاث القنابل الأولى بفوارق زمنية بين خمس وعشر دقائق على سيارتين مدنيتين كانتا تقلان مدنيين في زيارة عيدية، بينما سقطت ثلاث قنابل أخرى عند حوالي الساعة 10:30 صباحًا على سيارة مدنية أخرى أثناء عبورها على بعد 300 متر تقريبًا من موقع استهداف السيارتين السابقتين. أسفرت الهجمة عن مقتل ثمانية أطفال وإصابة 15 مدنيًّا؛ بينهم ثمانية أطفال وأربع نساء.
بعد وصول أنباء عن الهجمة، انطلق باحث منظمة مواطنة لحقوق الإنسان، من مدينة الحزم مركز محافظة الجوف إلى مديرية خب والشعف، في 11 أغسطس 2020 عبر طريق العقبة التي كان السفر عبرها حُلمًا صعب المنال خلال السنوات الست الماضية، وفتحت في مارس/ آذار 2020. استغرق السفر من ثلاث إلى أربع ساعات. يقول الباحث: “كنا نسير، وأبصارنا لا تكف التأمل في المناطق المدمرة التي خلفتها الحرب على قارعة الطريق، وتحليق الطيران فوق رؤوسنا”.
ومع أن هذه المناطق خلت من المواجهات، إلا أنها لا تزال تشكل خطرًا حقيقيًّا على المدنيين، ويمكن مشاهدة اللوحات التحذيرية من مخاطر الألغام على طول الطريق الأسفلتي في منطقة العقبة، ما يجبر السائقين على عدم الخروج من الخط المرسوم لهم بعناية، إلى جانب الأسلاك الشائكة. واصلنا السير عبر القرى وصولًا إلى وادي خب، حيث يعيش بعض أهالي ضحايا الغارات.
وتعد “خب والشعف”، أكبر مديريات محافظة الجوف، واليمن عمومًا، من حيث المساحة، ويقطنها الآلاف من السكان. وتضم المديرية عدة عزل، أكبرها (خب) و(اليتمة) و(الشعف) و(الريان)، وتقع المديرية إلى شمال شرق مدينة الحزم (مركز المحافظة)، وهي الآن تحت سيطرة جماعة أنصارالله (الحوثيين) المسلحة، عدا مناطق الريان واليتمة التي تسيطر عليها قوات الحكومة المعترف بها دوليًّا.
أجرى الباحث مقابلات مع الناجين وأسر الضحايا، أفادوا خلالها أن الضحايا كانوا من عائلات قبيلة المعاطرة، وهم أيضًا مالكو السيارات الثلاثة التي تعرضت للقصف خلال زيارتهم لأقاربهم في إجازة العيد. يقول الناجون إن المسعفين تأخروا قرابة ثلاث ساعات عن الوصول إليهم بسبب انقطاع شبكة الاتصالات.
بعد ذلك توجه الباحث وبعض أسر الضحايا إلى حراض وهراب، وهما المنطقتان المستهدفتان بالقصف الجوي، حوالي 50 كيلو مترًا من وادي خب، وهي طريق جبلية وعرة جدًّا، حيث استغرق الوصول ما يقارب الساعتين.
وبحسب ملاحظات الباحث، فإنه لا توجد أهداف عسكرية قريبة من المكان، والمنطقة نائية وبعيدة أيضًا عن التجمعات السكانية.
غامت الدنيا في أعيننا، ولم نكن نستطيع رؤية شيء. كانـت الشظايا كالمطر، أصيب شاجع بشظية، وأنا وعيدة أصبنا بالرأس، واختنقنا من الغبار والدخان، أما أطفالنا الذين في الصندوق، فقتلوا جميعًا؛ أطفالي الثلاثة، ريم (11 سنة)، ونجلاء (9 سنوات)، وعبدالله (6 سنوات). أما أطفال شاجع، فقتل اثنان منهم، إلى جانب اثنين من أطفال أختي سيدة، والباقون أصيبوا نتيجة الشظايا.
كانت الهجمة الجوية الأولى قد وقعت قرابة الساعة الـ09:30 صباحًا، واستهدفت سيارة شاجع الناجعي (40 سنة)، التي كان على متنها 21 شخصًا من الأطفال والنساء، قُتل منهم ثمانية أطفال وأصيب 11 آخرين.
بعد حوالي خمس دقائق تقريبًا، شن الطيران هجمة ثانية على سيارة عرفج المعطري (44 سنة)، عقبها هجمة ثالثة على السيارة نفسها بعد حوالي 10 دقائق من الضربة الثانية وهروب بعضِ مَن على متن السيارة، والذين كان عددهم سبعة مدنيين؛ منهم ثلاثة أطفال، وامرأتان. أدت هذه الهجمة إلى مقتل طفلة وإصابة خمسة آخرين، أحدهم إصابته خطيرة، من قبيلة المعاطرة الذين كانوا في طريقهم إلى مديريتي رجوزة والعنان، للقيام بزيارة معايدة لأهاليهم هناك.
يا ليتني قتلت في تلك الهجمة، ولم أرَ تلك الفجيعة. أطفالي يموتون أمام عيني ولا أستطيع فعل شيء.
ومع الخسائر التي أوقعها في صفوف المدنيين، استمر الطيران بالتحليق حتى الساعة الـ10:30 صباحًا، نفّذ خلالها ثلاث ضربات أخرى على سيارة علي مسعود المعطري في الخط ذاته، أثناء توجهه إلى منطقة خب، كان يحمل على متنها عددًا من براميل النفط الفارغة، نجا خلالها السائق بأعجوبة، وبالرغم من تدمير السيارة، واصل الطيران تحليقه، لما يقارب الساعة.
نُقل الجرحى إلى مستشفى الجوف، ومن ثَمّ إلى المستشفى الأوروبي بصنعاء. تحدثت شعفة المعطري (40 سنة)، وهي إحدى الناجيات، وأمّ لثلاثة أطفال قتلوا في الهجمة الأولى: “خرجنا من منازلنا في منطقة وادي خب، بعد الفجر، برفقة شاجع وأسرته. كنّا أنا وعيدة (38 سنة)، زوجة شاجع، في المقصورة التي خلف السائق، بينما أطفالنا وامرأتان -وهُم أختي سيدة وأطفالها، وسعدة وأطفالها- في صندوق السيارة، وفي منطقة مقعر تعطلت السيارة، فانتظرنا لإصلاحها.
انطلقت السيارة قليلًا، لكنها تعطلت مرة أخرى في أحد الأودية، حيث الطريق وعرة ومتعبة، حين وصلنا منطقة تدعى هراب (حراض)، وما أن سمعنا صوت الطائرة، حتى ألقت علينا بلاءها.
غامت الدنيا في أعيننا، ولم نكن نستطيع رؤية شيء. كانـت الشظايا كالمطر، أصيب شاجع بشظية، وأنا وعيدة أصبنا بالرأس، واختنقنا من الغبار والدخان، أما أطفالنا الذين في الصندوق، فقتلوا جميعًا؛ أطفالي الثلاثة، ريم (11 سنة)، ونجلاء (9 سنوات)، وعبدالله (6 سنوات). أما أطفال شاجع، فقتل اثنان منهم، إلى جانب اثنين من أطفال أختي سيدة، والباقون أصيبوا نتيجة الشظايا.
يا ليتني قتلت في تلك الهجمة، ولم أرَ تلك الفجيعة. أطفالي يموتون أمام عيني ولا أستطيع فعل شيء.
استمر الطيران في التحليق فوقنا، فهربنا من السيارة، ثم شنت هجمة على سيارة أخرى خلفنا. عدنا لسحب أطفالنا أنا وعيدة وسعدة إلى بعض الجروف، كنت أصرخ بأعلى صوتي، ولا يوجد أحد لينقذنا، وعندما توقف الطيران من التحويم، أخذت نفسي وقطعت مسافة ساعتين مشيًا بين الجبال، كنت أسقط وأواصل السير، بح صوتي وانعقد لساني عن الكلام.
وصلت إلى جماعة من البدو، طلبت منهم أن يهبّوا لإنقاذنا. كانت الساعة قد قاربت الواحدة ظهرًا، وكنت قد عدت مع إحدى سيارات المنطقة، لنقوم بنقل الجرحى. كان الذين قتلوا سبعة، بينهم أطفالي، قعدت حتى العصر، حين وصلت سيارة أخرى لنقلنا، وقاموا بدفنهم في منطقة حراض”.
تختم شعفة شهادتها: “لا أعلم حتى الآن ما الذي فعلناه ليقتلونا. بعدما عدت إلى البيت انهرت عصبيًّا وتعبت بشدة، فأخذوني إلى المستشفى، لا أستطيع وصف الحالة التي أنا فيها، هل هناك من ينكر هذه الجريمة، حسبي الله ونعم الوكيل!”.
من جانبه، يقول عرفج محمد (44 سنة)، وهو سائق السيارة الثانية التي تعرضت لغارة:
“خرجنا من وادي خب متجهين إلى مديرية رجوزة، ذاهبين لمعايدة أهلنا وأقاربنا هناك. كنت أقود سيارتي، وعلى متنها سبعة أشخاص، بينهم ثلاثة أطفال وامرأتان، وعندما وصلنا إلى منتصف منطقة حراض، سمعنا الضربة الأولى التي وقعت في أعلى حراض.
كنا نسمع تحليق الطيران في الأعلى، فشعرنا بالخطر. أوقفت السيارة بجانب الطريق، فقامت بالضرب علينا، وقع الصاروخ على الخط بالقرب من السيارة، لكن الله سلمنا. كانت الساعة الـ09:45 صباحًا.
ابتعدنا من السيارة عدة أمتار، ثم عاد الطيران واستهدف السيارة بغارة ثانية، وقعت على مقدمتها ودمرتها بالكامل، تناثرت شظايا الصاروخ في كل مكان، وإحدى تلك الشظايا أصابت بنت أخي، الطفلة فيزة (12 سنة)، شقت الشظية جسدها إلى نصفين، أما الطفلة الأخرى نويرة صالح سعيد (8 سنوات)، فأصابتها شظية في رجلها، بالرغم من أنهن كن على بعد حوالي سبعين مترًا من مكان السيارة.
أنا أيضًا أصبت بشظية، لكنها إصابة بسيطة في قدمي اليسرى. كان الوقت بين الهجمتين يقارب ثلاث إلى أربع دقائق، لم يمضِ على سيارتي هذه إلا أسبوع واحد منذ اشتريتها، ولا يزال نصف المبلغ دينًا عليّ. مشيت وأنا على غير وعي فتهت بين الجبال، بينما الآخرون ظلوا يبحثون عني لساعة تقريبًا حتى وجدوني.
لم يكن هناك أي مبرر لقصفنا، كنا نأخذ الطريق كأي مواطنين عاديين، ولا توجد أي مواقع بالمنطقة، ولا أي مظهر عسكري، أو عربة عسكرية. والذي لا إله إلا هو لم نشاهد في طريقنا أي عربة عسكرية للحوثيين، من حين خروجنا من وادي خب إلى أن قصفنا الطيران في منطقة حراض. اعتبرنا هذا الخط آمنًا، ولم تحدث فيه أي وقائع كهذه”.
فرج المعطري (42 سنة)، وهو أحد المسعفين، يقول: “أنا أعمل في منطقة العقلة على بعد حوالي 700 متر من المكان المستهدف، وكان الطيران يحلق فوقنا، عند حوالي الـ09:30 دقيقة، وقع القصف الأول على سيارة شاجع عندما وصل إلى مرتفع في منطقة هراب (حراض).
كنت أرى الدخان والغبار يتطاير في الأجواء، بينما الطيران يواصل تحويمه. أما بالنسبة لعلي مسعود، فسلّمه الله، واستطاع مغادرة السيارة بعد الضربة الأولى، ولم تصب السيارة مباشرة إلا في الضربة الثانية، فلم يبقَ من السيارة شيء.
كان علي مسعود متجهًا إلى منطقة خب الجوف، لينقل على متن سيارته براميل خاصة بالديزل، وبعد خمس دقائق تقريبًا عاد الطيران، ليقصف مرتين على الخط نفسه، مستهدفًا هذه المرة سيارة عرفج فوران. نهضت لنجدتهم، نقلت النساء والأطفال إلى خيمتي. ثم عدنا نبحث عن عرفج بين الشعاب والجبال، وبعد وقت وجدناه وهو في حالة لا يعلم بها إلا الله، وجهه محترق أسود، سألناه: أين كنت؟ رد: أبحث عن نسائي”.
تأتي هذه الجرائم التي يرتكبها طيران التحالف بقيادة السعودية والإمارات بحق المدنيين في محافظة الجوف بعد أن سبقتها أخرى بحق مدنيين في مديريات الحزم والمصلوب في فبراير/ شباط ويوليو/ تموز من العام 2020، والتي وثّقتها مواطنة؛ حيث وقعت الجريمة الأولى في منتصف فبراير/ شباط في العام نفسه، وأودت بـ53 مدنيًّا في قرية آل صيدة مديرية المصلوب (شمال شرق البلاد(
الجريمة الثانية في منتصف يوليو من العام نفسه، في صباح يوم الأربعاء 15 يوليو/ تموز 2020، قرابة الساعة الـ7:00 صباحًا، ألقى التحالف بقيادة السعودية والإمارات قنبلتين على مدنيين كانوا قد تجمعوا للاحتفال بمناسبة عائلية في قرية المساعفة، بمديرية الحزم في محافظة الجوف. وأسفر هذا الهجوم عن مقتل 12 مدنيًّا، بينهم 7 أطفال وامرأتان، وإصابة ستة آخرين، بينهم خمسة أطفال وامرأة. ولم تجد منظمة مواطنة أي أهداف عسكرية بالقرب من موقع الهجوم.
أصبح المدنيون في الجوف يتوقعون الموت بغارة جوية في أي لحظة، ولا يتوقفون عن التساؤل بأي ذنب يقتلون، وهل يعرف بمعاناتهم أحد؟