الفصل الثاني : التجمع السلمي

شهدت اليمن خلال زمن الحرب تقلص المساحة المدنية، وخاصة حرية التجمع والتظاهر السلمي، بعد أن كانت أحد أبرز أشكال الاحتجاج لعدة سنوات في اليمن. وجوبهت بأساليب قمعية وممارسات عنيفة العنيفة، وهو ما يشي على نحو جليّ بمدى الانتكاسات والدمار الذي حل بمنظومة حقوق الإنسان في اليمن جرّاء الحرب على يد الأطراف المتنازعة.

وثقت “مواطنة” خلال عام 2018 ثلاثة نماذج لحملات قمع بأساليب جديدة بحق تجمعات سلمية ومظاهرات مطلبية لمواطنين يمنيين، اثنتين منها في العاصمة صنعاء، وواحدة في مدينة المكلا جنوب شرقي البلاد.

الإطار القانوني

يظل القانون الدولي لحقوق الإنسان ساري المفعول أثناء النزاعات المسلحة، ويوفر هذا القانون الحماية للحق في حرية التجمع والتظاهر السلمي. وينص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي صادقت عليه اليمن، على ما يلي: “الحق في التجمع السلمي معترف به. ولا يجوز أن توضع قيود على ممارسة هذا الحق إلا تلك التي تُفرض طبقاً للقانون”. على الرغم من أن العهد يجيز فرض بعض القيود على بعض الحقوق أثناء النزاع أو أثناء حالات الطوارئ العامة المعلن قيامها رسمياً، فإنه يجب أن تكون أي قيود ذات طبيعة استثنائية ومؤقتة ومحدودة في أضيق الحدود التي يتطلبها الوضع”. يجب دائماً احترام بعض الحقوق الأساسية، بما في ذلك الحق في الحياة والحق في المحاكمة العادلة والحق في عدم التعرض للتعذيب وسوء المعاملة والحرمان التعسفي من الحرية.

كما يؤكد قانون حرية التظاهر اليمني على أن “للمواطنين في عموم الجمهورية وللأحزاب السياسية والمنظمات الجماهيرية والنقابات المهنية حرية تنظيم المظاهرات والمسيرات السلمية”.[1]

بعض الأمثلة على الوقائع

  • في صباح يوم الأربعاء 21 مارس/ آذار 2018، تجمع مجموعة من أنصار الرئيس السابق علي عبدالله صالح أمام منزله للاحتفال بذكرى ميلاده.

كانوا قد بدأوا بالتجمع أمام بوابة منزله الشرقية المقابلة لمركز الكميم التجاري، وكان عددهم بين 40 إلى 50 رجلاً وامرأة، يحملون باقات ورد يريدون وضعها أمام المنزل. وإذا بعشرات المسلحين التابعين لأنصار الله (الحوثيين) يخرجون من بيت صالح ومن شوارع مجاورة، ويشرعون في مضايقة ذلك التجمع، ودفعوا بعض النساء المتجمعات، فاعترض بعض سكان الحي على سلوك مسلحي الجماعة تجاه النساء، مادفع بعض المسلحين إلى الاعتداء المباشر على أولئك الرجال بالضرب بأعقاب البنادق وجرّهم إلى مركبات عسكرية واقتيادهم إلى جهة مجهولة بحسب شهود عيان.

بعد هذه الاعتداءات وصلت مجموعة من النساء، يتبعن جماعة الحوثي، يحملن في أيديهن هراوات وعصيّاً كهربائية، وبدأن بضرب النساء المتجمعات أمام منزل صالح، وحشر أغلب المتجمعات في حافلات كبيرة، واقتيادهن إلى المنطقة الأمنية التابعة لمديرية السبعين.

قال العامل شادي (اسم مستعار) (21 سنة): “وصلت إلى أمام مركز الكميم حوالي الساعة 9:30 صباحاً، كعادتي اليومية، وشاهدت نساء ورجالاً يصل عددهم إلى 40 أو 50 تقريباً، في أيديهم ورود، كانوا يتجمعون في الشارع المؤدي إلى منزل الرئيس السابق علي عبدالله صالح. كان يقف أمامهم مسلحون حوثيون، يمنعوهم من الوصول إلى بوابة البيت. تعالت أصوات النساء بهتاف “سلام الله على عفاش” (لقب الرئيس صالح).

بعد دقائق، خرج مسلحون من بيت الرئيس وآخرون قدموا من شارع “صخر” وبدأوا يدفعون النساء والفتيات، ويصوبون بنادقهم نحوهن، ويهددونهن بإطلاق النار إن لم يغادرن على الفور. تدخل العم يحيى، حارس المبنى، وبعض رجال الحارة وقال للحوثيين: “عيب، لا تضربوا النساء، لا يجوز”. فضربه 3 أو 4 حوثيين بالبنادق، ودفعوه إلى الأرض بقوة فسالت الدماء من رأسه، وبعدها جروه إلى (الطقم)  وأخذوه”.

وأضاف شادي: “بعد ما يقارب نصف ساعة وصلت قرابة 30 امرأة، يحملن في أيديهن عصياً غليظة وصواعق كهربائية. وبدأن مباشرة بضرب النساء المتجمعات بالعصيّ وصعقهن بالكهرباء، وسقطت على الأرض ثلاث نساء في حالة إغماء. بعض النساء (من حزب المؤتمر الشعبي) حاولن الهرب باتجاه جولة الرويشان لكن “الحوثيات” طاردنهن. بعدها رأيت “الحوثيات” يقتدن النساء بالقوة إلى باصات كبيرة، وأخذن من حاولن الهرب منهن على سيارة (هيلوكس)”.[2]

وقال يحيى الوشلي (50 سنة)، يعمل حارساً لإحدى البنايات: “خرجت من البناية لتناول الإفطار، حين سمعت إطلاق نار، رأيت ثلاثة جنود وضابطاً يجرون 5 نساء أمام بوابة منزل “الرئيس”، وكان بجوارهم “طقم” عسكري، ذهبت نحوهم وقلت  لهم: “حرام عليكم، هؤلاء نساء، من العيب ضربهن!”. فاعتدوا عليّ، وضربني أحدهم على وجهي، ودفعني آخر إلى الأرض، وصوّب الضابط بندقيته إلى صدري، ثم رفعها وأطلق رصاصتين في الجو”.

وأضاف يحيى: “اقتادوني إلى الطقم العسكري بصحبة شخصين آخرين، كان أحدهما قد تعرض للطعن، يقال إنه شيخ ينتمي إلى حزب المؤتمر. وحين وصلنا إلى قسم شرطة النصر، شاهدت عشرات النساء والرجال داخل القسم، حشر ما يقارب 50 رجلاً في غرفة أرضية طولها خمسة أو ستة أمتار، ظللت محتجزاً لمدة 5 أيام. بعدها علمنا أنه تم إطلاق سراح النساء في الليلة الأولى [3] “.

  • في صبيحة 5 و6 سبتمبر/ أيلول 2018، شهدت مدينة المكلا، عاصمة محافظة حضرموت، جنوب شرق العاصمة صنعاء، عصياناً مدنياً ضد حكومة الرئيس هادي، رافق العصيان خروج مسيرات احتجاج طالبت الحكومة بتخفيض الأسعار، وتوفير السلع الأساسية والمشتقات النفطية، والغاز المنزلي بأسعار تناسب قدرة المواطنين الشرائية، ردد فيها المواطنون هتافات غاضبة ضد الحكومة والتحالف السعودي الإماراتي.

وتخلل هذه المسيرات قطع بعض الشوارع الرئيسية، وإحراق الإطارات تعبيراً عن سخط المواطنين على الأوضاع المعيشية البائسة التي يحمّلون الحكومة والتحالف المسؤولية الكاملة عنها. شهدت المدينة انتشاراً كثيفاً  لقوات الأمن التي عمدت إلى تفريق المتظاهرين بالضرب وإطلاق الأعيرة النارية الحيّة، الأمر الذي أدى إلى إصابة طفلين، إصابة أحدهما بليغة، فضلاً عن تعرض ثلاثة رجال آخرين لجروح.

وباشرت قوات الأمن حملة اعتقالات بحق العشرات من المواطنين، بينهم خمسة أطفال، تم الإفراج عنهم في غضون يومين. وكانت قوات الأمن قد نصبت نقاط تفتيش في مداخل المدينة، مانعة بعض المواطنين من الدخول، واعتقلت مواطنين عند هذه النقاط بذريعة أنهم يودون المشاركة في المسيرات الاحتجاجية.

قالت إشراق (اسم مستعار) (28 سنة)، شاهدة عيان: “بينما كانت مسيرة الاحتجاج تعبر في الشارع العام لمدينة المكلا قرابة الساعة 12.00 ظهراً، بدأت قوات الشرطة العسكرية التابعة لجيش النخبة الحضرمية بالاعتداء على المتظاهرين بطريقة مفاجئة، إذ شرعوا في إطلاق الرصاص الحي أولاً في الجو، وبعد هياج المتظاهرين بدأ عناصر القوات الأمنية بإطلاق الرصاص تجاه المواطنين بصورة عشوائية. أصيب عدد من المواطنين كان بينهم أطفال، وتفرق المتظاهرون وهمّ بعضهم بإسعاف الجرحى إلى مستشفى “باشراحيل” الخاص بالأمومة والطفولة، الذي قدم فقط الإسعافات الأولية، نُقِلوا بعدها إلى مستشفى الريان التخصصي لتلقي العلاج هناك”. وأضافت إشراق: “قرابة الساعة 6:00 مساء ذلك اليوم استأنف المحتجون مسيراتهم المنددة بالقمع، إلا أن قوات النخبة الحضرمية منعت تشكل تجمعات كبيرة، وباشرت حملة اعتقالات واسعة، حتى أنه في اليوم التالي تم منع التجمعات تماماً، حيث كثفت قوات الأمن من انتشارها حتى داخل الأحياء السكنية”.[4]

 

  • على وقع الانهيار المتسارع للعملة الوطنية “الريال” مقابل العملات الأجنبية، وما ترتب على هذا الانهيار من تفاقم الأوضاع الاقتصادية وتردي الظروف المعيشية للمواطنين في البلاد. تداول ناشطون على صفحات التواصل الاجتماعي الدعوة للخروج[5] في كافة المدن اليمنية، تنديداً بهبوط العملة الوطنية وارتفاع الأسعار.

في صباح يوم السبت 6 أكتوبر/ تشرين الأول، أقدمت جماعة أنصار الله المسلحة (الحوثيون) على قمع مدنيين لبوا دعوة الخروج والتظاهر، حيث اعتدت عليهم عناصر تتبع الجماعة، وفرّقوهم باستخدام الهراوات والعصي الكهربائية في نقاط تجمعهم أمام جامعة صنعاء وفي ميدان التحرير. وكانت الجماعة قد نشرت مسلحيها ودورياتهم العسكرية بصورة مكثفة في معظم شوارع صنعاء، ونصبوا نقاط تفتيش أمنية فيها، ضمت هذه النقاط نساء مسلحات.

وتخللت أعمال القمع: الإهانة، والتشهير، والضرب، واحتجاز عشرات الطلاب والطالبات ومواطنين آخرين. إذ تم حشرهم في حافلات، واقتيادهم إلى قسم شرطة “الجديري” الذي يقع في شارع الزراعة بمدينة صنعاء. فضلاً عن اقتحام كليتي التجارة والإعلام، وإخضاع الطلاب للتفتيش من قبل مسلحي ومسلحات الجماعة. وفي ظهيرة نفس اليوم أقامت الجماعة عرضاً عسكرياً داخل الحرم الجامعي، تلته وقفة احتجاجية لأنصارها منددة “بحرب قوات التحالف على اليمن”.

قالت زينب (اسم مستعار) (22 سنة)، طالبة هندسة في جامعة صنعاء: “كنت عازمة على الخروج والتظاهر منذ أكثر من عام، فالأوضاع الاقتصادية باتت صعبة للغاية، وكلنا صار يشعر بالمعاناة، لم أقدر على شراء جهاز كمبيوتر يتلاءم ومتطلبات دراستي نتيجة لكلفته العالية، فقد صار ثمن الجهاز أكثر من مليون ريال (يعادل 1700 دولار أمريكي تقريباً). أمي موظفة لكنها لم تتسلم رواتبها منذ أكثر من عامين، حصلَت فيهما على نصف راتب ثلاث مرات فقط”.

وأضافت: “قررت الذهاب إلى الجامعة للمشاركة في المظاهرة وما أن وصلت قرابة الساعة 9:40 صباحاً إلى البوابة الشرقية للجامعة (الحرم الجامعي الجديد) هالني منظر المسلحين المنتشرين أمام البوابة، وحين دخلت من البوابة شاهدت عرضاً عسكرياً لعشرات المسلحين داخل الجامعة يحملون شعارات جماعة أنصار الله ويرددون هتافاتها[6]“.

وأكملت زينب: “رأيت فتيات يقفن في تجمعات صغيرة، اقتربت منهن وتعرفت على بعضهن، كنا من بين من قررن الخروج للتظاهر، وما أن بدأنا بترتيب أنفسنا حتى هاجمتنا مجموعة من “الحوثيات” اللاتي اقتدنني مع ثلاث زميلات إلى حافلة متوسطة الحجم، نوع هايس موديل (تويوتا). لقد ضربنني كثيراً، وركلنني بأرجلهن على بطني. لم يتوقفن عن ضربي وشتمي قائلات: “يا بنات الكلب، يا بنات الحرام، يا ملعونات”. وأضافت: “تحرك الباص بعد أن تمت تعبئته بالفتيات، لكن شابين لا نعرفهما اعترضاه قبل خروجه من الحرم الجامعي، فنزل السائق الذي كان يحمل مسدساً للتعارك معهما، ففتحت إحدى الفتيات باب الحافلة وتمكّنّا الهرب”.

في شهادة أخرى قالت ميرفت (اسم مستعار) (20 سنة)، طالبة في جامعة صنعاء: “كانت الساعة تقارب 9:45 صباحاً حين دخلت الجامعة، ورأيت نساء يتهجمن على بعض الطالبات وينزعن عنهن أغطية الرأس، شعرت بالخوف وبكيت،  وإذا  بإحدى تلك  النسوة تجرني من يدي، وتقول لي: “تعالي معنا”. سألتها: “إلى أين؟” فلم ترد، وكانت تحمل عصا غليظة وصاعقاً كهربائياً. أخذَت هاتفي وحقيبتي، ودفعتني بقوة داخل الحافلة. أعطوا أشيائي للمسلحين، وكلما طلبت منهم أن يعيدوها صقعتني إحداهن بالكهرباء”.[7]

وأضافت ميرفت: “كنا نبكي فوق الحافلة، حتى أنهم أخذوا امرأة عجوزاً جاءت إلى باحة الجامعة للتنزّه. اقتادونا إلى قسم شرطة “الجديري”. وهناك كانت غرف القسم ومكاتبه مكتظة بعشرات الفتيات والنساء. قالوا إنهم سيضعوننا في الزنازين، لكنها كانت ممتلئة. ثم جمعونا في غرفة كبيرة يبدو أنها مخصصة للاجتماعات. كان معنا في تلك الغرفة نساء اعتُقلن من ميدان التحرير، بعضهن كن يتسوّقن، بينهن فتيات يحملن أغراض الزفاف معهن”.

[1] قانون رقم (29) لسنة 2003 بشأن تنظيم المظاهرات والمسيرات، الفصل الثاني، المادة رقم (3).

[2] مقابلة مواطنة لحقوق الإنسان مع شاهد عيان، تاريخ29 مارس/ آذار 2018 .

[3] مقابلة مواطنة لحقوق الإنسان مع شاهد عيان، تاريخ 30 مارس/ آذار 2018 .

[4] مقابلة مواطنة لحقوق الإنسان مع شاهد عيان، تاريخ 21 ديسمبر/ كانون الأول 2018.

[5] الجزيرة نت،” ثورة الجياع باليمن تستمر ضد الحوثيين والتحالف والحكومة” : https://www.aljazeera.net/news/arabic/2018/10/6/%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%8A%D8%A7%D8%B9-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%86-%D8%AA%D8%AA%D9%88%D8%A7%D8%B5%D9%84-%D8%B6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%AB%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D9%84%D9%81-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%83%D9%88%D9%85%D8%A9

[6] مقابلة مواطنة لحقوق الإنسان مع شاهد عيان، تاريخ 13 أكتوبر/  تشرين الأول 2018.

[7] مقابلة مواطنة لحقوق الإنسان مع شاهد عيان، تاريخ 13 أكتوبر/  تشرين الأول .2018